سورة النساء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


قوله: {يا أيها الذين آمنوا} جعل الخطاب خاصاً بالمؤمنين؛ لأنهم كانوا يقربون الصلاة حال السكر، وأما الكفار، فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى. قوله: {لاَ تَقْرَبُواْ} قال أهل اللغة: إذا قيل: لا تقرب بفتح الراء معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه: لا تدن منه. والمراد هنا: النهي عن التلبس بالصلاة، وغشيانها. وبه قال جماعة من المفسرين، وإليه ذهب أبو حنيفة.
وقال آخرون المراد: مواضع الصلاة، وبه قال الشافعي. وعلى هذا فلا بدّ من تقدير مضاف، ويقوّي هذا قوله: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} وقالت طائفة: المراد الصلاة ومواضعها معاً؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة، ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين.
قوله: {وَأَنتُمْ سكارى} الجملة في محل نصب على الحال، وسكارى جمع سكران، مثل كسالى جمع كسلان. وقرأ النخعي: {سكرى} بفتح السين، وهو تكسير سكران. وقرأ الأعمش: {سُكْرى} كحبلى صفة مفردة.
وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا: سكر الخمر، إلا الضحاك، فإنه قال: المراد سكر النوم. وسيأتي بيان سبب نزول الآية، وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال. قوله: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر، أي: حتى يزول عنكم أثر السكر، وتعلموا ما تقولونه، فإن السكران لا يعلم ما يقوله، وقد تمسك بهذا من قال: إن طلاق السكران لا يقع؛ لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد. وبه قال عثمان بن عفان، وابن عباس، وطاوس، وعطاء، والقاسم، وربيعة، وهو قول الليث بن سعد، وإسحاق، وأبي ثور، والمزني. واختاره الطحاوي، وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس. وأجازت طائفة وقوع طلاقه، وهو محكيّ عن عمر ابن الخطاب، ومعاوية، وجماعة من التابعين، وهو: قول أبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي. واختلف قول الشافعي في ذلك.
وقال مالك: يلزمه الطلاق، والقود في الجراح، والقتل، ولا يلزمه النكاح، والبيع.
قوله: {وَلاَ جُنُباً} عطف على محل الجملة الحالية، وهي قوله: {وَأَنتُمْ سكارى} والجنب لا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع؛ لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب. قال الفراء: يقال جنب الرجل، وأجنب من الجنابة. وقيل: يجمع الجنب في لغة على أجناب، مثل عنق، وأعناق، وطنب، وأطناب. وقوله: {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} استثناء مفرّغ، أي: لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل. والمراد به هنا: السفر، ويكون محل هذا الاستثناء المفرّغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية، وهي قوله: {وَلاَ جُنُباً} لا بالحال الأولى، وهي قوله: {وَأَنتُمْ سكارى} فيصير المعنى: لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال السفر، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم، وهذا قول عليّ، وابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والحكم، وغيرهم، قالوا: لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر، فإنه يتيمم؛ لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر، فإن الغالب أنه لا يعدم.
وقال ابن مسعود، وعكرمة، والنخعي، وعمرو بن دينار، ومالك، والشافعي: عابر السبيل هو: المجتاز في المسجد، وهو مرويّ عن ابن عباس، فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة، وهي: المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب، وفي القول الأوّل قوّة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر، وإن معناه: أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء، كما يكون في المسافر، وفي القول الثاني قوّة من جهة عدم التكلف في معنى قوله: {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها.
وبالجملة فالحال الأولى، أعني قوله: {وَأَنتُمْ سكارى} تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف، وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوّي ذلك. وقوله: {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} يقوّي تقدير المضاف، أي: لا تقربوا مواضع الصلاة. ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي أعني: {لا تقربوا} وهو قوله: {وَأَنتُمْ سكارى} يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي وهو قوله: {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} يدل على أن المراد مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان، وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب، وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو جائز بتأويل مشهور.
وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: والأولى قول من قال: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء، وهو جنب في قوله: {وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صعيداً طيباً} فكان معلوماً بذلك، أي: أن قوله: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ} لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله: {وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ} معنى مفهوم.
وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل. قال: والعابر السبيل المجتاز مرّاً وقطعاً، يقال منه: عبرت هذا الطريق، فأنا أعبره عبراً وعبوراً، ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه، ومنه قيل للناقة القوية: هي عبر أسفار لقوّتها على قطع الأسفار. قال ابن كثير: وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية. انتهى.
قوله: {حتى تَغْتَسِلُواْ} غاية للنهي عن قربان الصلاة، أو مواضعها حال الجنابة. والمعنى: لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل. قوله: {وَإِنْ كُنتُم مرضى} المرض عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال، والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ، وهو على ضربين كثير ويسير. والمراد هنا: أن يخاف على نفسه التلف، أو الضرر باستعمال الماء، أو كان ضعيفاً في بدنه وهو لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء.
وروي عن الحسن أنه يتطهر، وإن مات، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} [البقرة: 185] قوله: {أَوْ على سَفَرٍ} فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر، والخلاف مبسوط في كتب الفقه.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر، وقال قوم: لا بد من ذلك.
وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر.
واختلفوا في الحاضر، فذهب مالك، وأصحابه، وأبو حنيفة، ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر، والسفر.
وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف.
قوله: {أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط} هو المكان المنخفض، والمجيء منه كناية عن الحدث، والجمع الغيطان، والأغواط، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطاً توسعاً، ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء. قوله: {أَوْ لامستم النساء} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: {لامستم} وقرأ حمزة، والكسائي: {لمستم} قيل المراد بها: بها في القراءتين الجماع. وقيل: المراد به: مطلق المباشرة، وقيل: إنه يجمع الأمرين جميعاً.
وقال محمد بن يزيد المبرد: الأولى في اللغة أن يكون: {لامستم} بمعنى قبلتم، ونحوه، و{لمستم} بمعنى غشيتم.
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال، فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع، قالوا: والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل، أو يدع الصلاة حتى يجد الماء.
وقد روي هذا عن عمرو بن الخطاب، وابن مسعود. قال ابن عبد البر: لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي، وحملة الآثار.
انتهى. وأيضاً الأحاديث الصحيحة تدفعه، وتبطله، كحديث عمار، وعمران بن حصين، وأبي ذرّ في تيمم الجنب. وقالت طائفة: هو الجماع كما في قوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، وقوله: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] وهو مرويّ عن عليّ، وأبيّ بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، وطاوس، والحسن، وعبيد ابن عمير، وسعيد بن جبير، والشعبي، وقتادة، ومقاتل بن حبان، وأبي حنيفة.
وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ، فإن لمسها بغير شهوة، فلا وضوء، وبه قال أحمد، وإسحاق.
وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد، أو غيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا. وحكاه القرطبي عن ابن مسعود، وابن عمر، والزهري، وربيعة.
وقال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى: {فلمسوه بأيديهم} [الأنعام: 7] وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه، وليس الأمر كذلك. فقد اختلفت الصحابة، ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة، والكسائي بلفظ: {أو لمستم} وهي محتملة بلا شك، ولا شبهة، ومع الاحتمال، فلا تقوم الحجة بالمحتمل. وهذا الحكم تعمّ به البلوى، ويثبت به التكليف العامّ، فلا يحل إثباته بمحتمل قط، وقد وقع النزاع في مفهومه. وإذا عرفت هذا، فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء، فكان الجنب داخلاً في الآية بهذا الدليل، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك.
وأما وجوب الوضوء، أو التيمم على من لمس المرأة بيده، أو بشيء من بدنه، فلا يصح القول به استدلالاً بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال. وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم أتاه رجل، فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114]. أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث معاذ، قالوا: فأمره بالوضوء؛ لأنه لمس المرأة، ولم يجامعها، ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا الحديث على محل النزاع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية، إذ لا صلاة إلا بوضوء. وأيضاً فالحديث منقطع؛ لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ، ولم يلقه، وإذا عرفت هذا، فالأصل البراءة عن هذا الحكم، فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة.
وأيضاً قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ثم يقبل، ثم يصلي، ولا يتوضأ.
وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة، رواه أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وما قيل من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، ولم يسمع من عروة فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، ورواه ابن جرير من حديث ليث، عن عطاء، عن عائشة، ورواه أحمد أيضاً، وأبو داود، والنسائي من حديث أبي روق الهمداني، عن إبراهيم التيميّ، عن عائشة، ورواه أيضاً ابن جرير من حديث أم سلمة، ورواه أيضاً من حديث زينب السهمية. ولفظ حديث أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها، وهو صائم، ولا يفطر، ولا يحدث وضوءاً. ولفظ حديث زينب السهمية: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل، ثم يصلي، ولا يتوضأ». ورواه أحمد، عن زينب السهمية، عن عائشة.
قوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} هذا القيد إن كان راجعاً إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط، وهو المرض، والسفر، والمجيء من الغائط، وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوّغان التيمم، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء، فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء، ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح، كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم، وكذلك المقيم، كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر؛ فقيل وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب، وإن كان راجعاً إلى الصورتين الأخيرتين: أعني قوله: {أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء} كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال، وهو أن من صدق عليه اسم المريض، أو المسافر جاز له التيمم، وإن كان واجداً للماء قادراً على استعماله، وقد قيل: إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبراً في الأوّلين لندرة وقوعه فيهما. وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط، وتوجيه بارد.
وقال مالك، ومن تابعه: ذكر الله المرض، والسفر في شرط التيمم اعتباراً بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف الحاضر، فإن الغالب، وجوده، فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه. انتهى. والظاهر أن المرض بمجرّده مسوّغ للتيمم، وإن كان الماء موجوداً إذا كان يتضرّر باستعماله في الحال، أو في المآل، ولا تعتبر خشية التلف، فالله سبحانه يقول: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} [البقرة: 185] ويقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 87]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الدين يسر» ويقول: «يسروا ولا تعسروا» وقال: «قتلوه قتلهم الله» ويقول: «أمرت بالشريعة السمحة» فإذا قلنا: إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم، والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضرّه، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضرّه، فإن في مجرّد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف. وأما وجه التنصيص على المسافر، فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض.
قوله: {فَتَيَمَّمُواْ} التيمم لغة: القصد، يقال: تيممت الشيء: قصدته، وتيممت الصعيد: تعمدته، وتيممته بسهمي، ورمحي: قصدته دون من سواه، وأنشد الخليل:
يممته الرمح شزرا ثم قلت له *** هذي البسالة لا لعب الزحاليق
وقال امرؤ القيس:
تيممتها من أذرعات وأهلها *** بيثرب أدنى دارها نظر عال
وقال:
تيممت العين التي عند ضارج *** يفيء عليها الظل عرمضها طامي
قال ابن السكيت: قوله: {فَتَيَمَّمُواْ} أي: اقصدوا، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب.
وقال ابن الأنباري في قولهم قد تيمم الرجل: معناه قد مسح التراب على وجهه، وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي. فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين، وإنما هو معنى شرعي فقط، وظاهر الأمر الوجوب، وهو مجمع على ذلك. والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وتفاصيل التيمم، وصفاته مبينة في السنة المطهرة، ومقالات أهل العلم مدوّنة في كتب الفقه، قوله: {صَعِيداً} الصعيد: وجه الأرض سواء كان عليه تراب، أو لم يكن، قاله الخليل، وابن الأعرابي، والزجاج. قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة، قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف: 8] أي: أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً، وقال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] وقال: ذو الرمة:
كأنه بالضحى يرمي الصعيد به *** دبابة في عظام الرأس خرطوم
وإنما سمي صعيداً؛ لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صعدات.
وقد اختلف أهل العلم فيما يجزئ التيمم به، فقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري، والطبري: إنه يجزئ بوجه الأرض كله تراباً كان، أو رملاً، أو حجارة، وحملوا قوله: {طَيّباً} على الطاهر الذي ليس بنجس، وقال الشافعي، وأحمد، وأصحابهما: إنه لا يجزئ التيمم إلا بالتراب فقط، واستدلوا بقوله تعالى: {صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] أي: تراباً أملس طيباً، وكذلك استدلوا بقوله: {طَيّباً} قالوا: والطيب التراب الذي ينبت.
وقد تنوزع في معنى الطيب، فقيل: الطاهر كما تقدم وقيل: المنبت كما هنا وقيل: الحلال. والمحتمل لا تقوم به حجة، ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز، لكان الحق ما قاله الأوّلون، لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله: «فضلنا الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء» وفي لفظ: «وجعل ترابها لنا طهوراً» فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية، أو مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه، ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أي: أخذ من غباره. انتهى. والحجر الصلد لا غبار له. قوله: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} هذا المسح مطلق، يتناول المسح بضربة أو ضربتين، ويتناول المسح إلى المرفقين أو إلى الرسغين، وقد بينته السنة بياناً شافياً، وقد جمعنا بين ما ورد في المسح بضربة، وبضربتين، وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. قوله: {إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} أي: عفا عنكم، وغفر لكم تقصيركم، ورحمكم بالترخيص لكم، والتوسعة عليكم.
وقد أخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والضياء في المختارة، عن عليّ بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني، فقرأت: {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه: أن الذي صلى بهم عبد الرحمن.
وأخرج ابن المنذر، عن عكرمة في الآية قال: نزلت في أبي بكر، وعمر، وعليّ، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، صنع لهم عليّ طعاماً، وشراباً، فأكلوا، وشربوا، ثم صلى بهم المغرب، فقرأ: {قل يا أيها الكافرون} حتى ختمها، فقال: ليس لي دين، لكم دين، فنزلت.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والنسائي، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في هذه الآية قال: نسختها: {إِنَّمَا الخمر والميسر} [المائدة: 90] الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك في الآية قال: لم يعن بها الخمر إنما عني بها سكر النوم.
وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس: {وَأَنتُمْ سكارى} قال: النعاس.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقيّ عن عليّ.
قوله: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} قال: نزلت في المسافر تصيبه الجنابة، فيتيمم ويصلي. وفي لفظ قال: لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء، فيتيمم، ويصلي حتى يجد الماء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن ابن عباس في الآية يقول: لا تقربوا الصلاة، وأنتم جنب إذا وجدتم الماء، فإن لم تجدوا الماء، فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض.
وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد قال: لا يمرّ الجنب، ولا الحائض في المسجد، إنما أنزلت: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} للمسافر يتيمم، ثم يصلي.
وأخرج الدارقطني، والطبراني، وأبو نعيم في المعرفة، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، والضياء في المختارة عن الأسلع بن شريك قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد، فأموت، أو أمرض، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها، ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: «يا أسلع، ما لي أرى راحلتك تغيرت؟» قلت: يا رسول الله لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال: «ولم؟» قلت: إني أصابتني جنابة، فخشيت القرّ على نفسي، فأمرته أن يرحلها، ورضفت أحجاراً، فأسخنت بها ماء، فاغتسلت به، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا} إلى قوله: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ}.
وأخرج ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن جرير، والطبراني، والبيهقي من وجه آخر عن أسلع قال: كنت أخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأرحل له، فقال لي ذات ليلة: «يا أسلع قم، فارحل لي،» قلت: يا رسول الله أصابتني جنابة، فسكت عني ساعة حتى جاء جبريل بآية الصعيد، فقال: «قم يا أسلع فتيمم» الحديث.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة} قال: المساجد.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقيّ من طريق عطاء الخراساني عنه: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} قال: لا تدخلوا المسجد، وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمرّ به مرّاً، ولا تجلس.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود، نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي في سننه عنه أنه كان يرخص للجنب أن يمرّ في المسجد، ولا يجلس فيه، ثم قرأ قوله: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ}.
وأخرج البيهقي، عن أنس نحوه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي، عن جابر قال: كان أحدنا يمرّ في المسجد، وهو جنب مجتازاً.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَإِنْ كُنتُم مرضى} قال: نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج ابن شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ كُنتُم مرضى} قال: هو الرجل المجدور أو به الجراح، أو القرح يجنب، فيخاف إن اغتسل أن يموت، فيتيمم.
وأخرج ابن جرير، عن إبراهيم النخعي قال: نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جراح ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَإِنْ كُنتُم مرضى} الآية.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، والبيهقي من طرق عن ابن مسعود في قوله: {أَوْ لامستم النساء} قال: اللمس ما دون الجماع، والقبلة منه، وفيه الوضوء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، عن ابن عمر أنه كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويقول هي: اللماس.
وأخرج الدارقطني، والبيهقي، والحاكم عن عمر قال: إن القبلة من اللمس، فتوضأ منها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن علي قال: اللمس هو الجماع، ولكن الله كنى عنه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير قال: كنا في حجرة ابن عباس، ومعنا عطاء بن أبي رباح، ونفر من الموالي، وعبيد بن عمير، ونفر من العرب، فتذاكرنا للماسّ، فقلت أنا وعطاء والموالي: اللمس باليد، وقال عبيد بن عمير، والعرب: هو الجماع، فدخلت على ابن عباس، فأخبرته فقال: غلبت الموالي وأصابت العرب، ثم قال: إن اللمس، والمسّ والمباشرة إلى الجماع ما هو، ولكن الله يكنى ما شاء بما شاء.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: إن أطيب الصعيد أرض الحرث.


قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} كلام مستأنف، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المسلمين. والنصيب: الحظّ، والمراد: اليهود أوتوا نصيباً من التوراة. وقوله: {يَشْتَرُونَ} جملة حالية، والمراد بالاشتراء: الاستبدال، وقد تقدم تحقيق معناه. والمعنى: أن اليهود استبدلوا الضلالة، وهي: البقاء على اليهودية، بعد وضوح الحجة على صحة نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} عطف على قوله: {يَشْتَرُونَ} مشارك له في بيان سوء صنيعهم، وضعف اختيارهم، أي: لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى، بل أرادوا مع ضلالهم أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم، الذي هو سبيل الحق: {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أيها المؤمنون، وما يريدونه بكم من الإضلال، والجملة اعتراضية {وكفى بالله وَلِيّاً} لكم {وكفى بالله نَصِيراً} ينصركم في مواطن الحرب، فاكتفوا بولايته ونصره، ولا تتولوا غيره، ولا تستنصروه، والباء في قوله: {بالله} في الموضعين زائدة.
قوله: {مّنَ الذين هَادُواْ} قال الزجاج: إن جعلت متلعقة بما قبل، فلا يوقف على قوله: {نَصِيراً} وإن جعلت منقطعة، فيجوز الوقف على {نصيراً} والتقدير: من الذين هادوا قوم يحرّفون، ثم حذف، وهذا مذهب سيبويه، ومثله قول الشاعر:
لو قلت ما في قومها لم أيثم *** يفضلها في حسب وميسم
قالوا: المعنى: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها، ثم حذف.
وقال الفراء: المحذوف لفظ من: أي من الذين هادوا من يحرّفون الكلم كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي: من له، ومنه قول ذي الرمة:
فظلوا ومنهم دمعه سابق له ***
أي: من دمعه، وأنكره المبرّد والزجاج؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة؛ وقيل إن قوله: {مّنَ الذين هَادُواْ} بيان لقوله: {الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب}. والتحريف: الإمالة والإزالة، أي: يميلونه ويزيلونه عن مواضعه، ويجعلون مكانه غيره، أو المراد: أنهم يتأوّلونه على غير تأويله، وذمهم الله عزّ وجلّ بذلك، لأنهم يفعلونه عناداً وبغياً، وتأثيراً لغرض الدنيا.
قوله: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي: سمعنا قولك، وعصينا أمرك {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: اسمع حال كونك غير مسمع، وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: اسمع لا سمعت، ويحتمل أن يكون المعنى: اسمع غير مسمع مكروهاً، أو اسمع غير مسمع جواباً.
وقد تقدم الكلام في راعنا. ومعنى: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أنهم يلوونها عن الحق، أي: يميلونها إلى ما في قلوبهم، وأصل الليّ: الفتل وهو منتصب على المصدر، ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله. قوله: {وَطَعْناً فِى الدين} معطوف على {ليا} أي: يطعنون في الدين بقولهم: لو كان نبياً لعلم أنا نسُّبه، فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا} قولك: {وَأَطَعْنَا} أمرك: {واسمع} ما نقول: {وانظرنا} أي: لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} مما قالوه {وَأَقْوَمُ} أي: أعدل، وأولى من قولهم الأوّل، وهو قولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وراعنا} لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب، واحتمال الذم في راعنا {ولكن} لم يسلكوا المسلك الحسن، ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم، ولهذا: {لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: إلا إيماناً قليلاً، وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض، وببعض الرسل دون بعض.
قوله: {يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} ذكر سبحانه أوّلاً أنهم أوتوا نصيباً من الكتاب، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب. والمراد: أنهم أوتوا نصيباً منه؛ لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه، بل حرّفوا وبدّلوا. وقوله: {مُصَدّقاً} منتصب على الحال. والطمس: استئصال أثر الشيء، ومنه {وَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} [المرسلات: 8] يقال: نطمس بكسر الميم وضمها لغتان في المستقبل، ويقال: طمس الأثر أي: محاه كله، ومنه {رَبَّنَا اطمس على أموالهم} [يونس: 88] أي: أهلكها، ويقال: هو مطموس البصر، ومنه: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] أي: أعميناهم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة؟ فيجعل الوجه كالقفا، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم، وسلبهم التوفيق؟ فذهب إلى الأوّل طائفة، وذهب إلى الآخر آخرون، وعلى الأوّل، فالمراد بقوله: {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} نجعلها قفا، أي: نذهب بآثار الوجه، وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا، وقيل: إنه بعد الطمس يردّها إلى موضع القفا، والقفا إلى مواضعها، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله: {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} فإن قيل: كيف جاز أن يهدّدهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا، ولم يفعل ذلك بهم؟ فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين.
وقال المبرد: الوعيد باق منتظر وقال: لا بدّ من طمس في اليهود، ومسخ قبل يوم القيامة. قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه، قيل المراد باللعن هنا: المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير، وقيل المراد: نفس اللعنة، وهم ملعونون بكل لسان. والمراد: وقوع أحد الأمرين: إما الطمس، أو اللعن.
وقد وقع اللعن، ولكنه يقوّي الأوّل تشبيه هذا اللعن بلعن أهل أصحاب السبت. قوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} أي: كائناً موجوداً لا محالة، أو يراد بالأمر المأمور. والمعنى أنه متى أراده كان، كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
[يس: 82] قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، ولا يختص بكفار أهل الحرب، لأن اليهود قالوا عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقالوا ثالث ثلاثة. ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته؛ وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين، فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. قال ابن جرير: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عزّ وجلّ إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله عزّ وجلّ. وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة.
وقد تقدّم قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} [النساء: 31] وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود، وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه، وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه في قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} يعني: يحرفون حدود الله في التوراة، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} قال: تبديل اليهود التوراة {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} قالوا: سمعنا ما تقول ولا نطيعك {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال: غير مقبول ما تقول: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} قال: خلافاً يلوون به ألسنتهم {واسمع وانظرنا} قال: أفهمنا لا تعجل علينا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن عباس في قوله: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال: يقولون اسمع لا سمعت.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار اليهود: منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، فقال لهم: «يا معشر اليهود اتقوا الله، وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق» فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وأنزل الله فيهم: {يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} قال: طمسها أن تعمي {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} يقول: نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم، فيمشون القهقري. ونجعل لأحدهم عينين في قفاه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} يقول: عن صراط الحق {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} قال: في الضلالة.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال: «وما دينه؟» قال: يصلي ويوحد الله، قال: استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه، فطلب الرجل منه ذلك، فأبى عليه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: وجدته شحيحاً على دينه، فنزلت: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية.
وأخرج ابن الضريس، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن عدّي بسند صحيح، عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال: «إنيّ ادّخرت دعوتي، وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عمر قال: لما نزلت: {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية قام رجل فقال: والشرك يا نبيّ الله؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية.
وأخرج ابن المنذر، عن أبي مجلز أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال في هذه الآية: إن الله حرّم المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فلم يؤيسهم من المغفرة.
وأخرج الترمذي، وحسنه عن علي قال: أحبّ آية إلىّ في القرآن {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية.


قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} تعجيب من حالهم.
وقد اتفق المفسرون على أن المراد: اليهود.
واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم، فقال الحسن، وقتادة: هو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقال الضحاك: هو قولهم لا ذنوب لنا، ونحن كالأطفال. وقيل: قولهم إن آباءهم يشفعون لهم وقيل: ثناء بعضهم على بعض. ومعنى التزكية: التطهير والتنزيه، فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها، واللفظ يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم، ويدخل في هذا التلقب بالألقاب المتضمنة للتزكية، كمحيي الدين، وعز الدين، ونحوهما. قوله: {بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء} أي: ذلك إليه سبحانه، فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده، ومن لا يستحقها، فليدع العباد تزكية أنفسهم، ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه، فإن تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة تحمل عليها محبة النفس، وطلب العلوّ والترفع والتفاخر ومثل هذه الآية قوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32]. قوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} أي: هؤلاء المزكون لأنفسهم {فَتِيلاً} وهو: الخيط الذي في نواة التمر. وقيل: القشرة التي حول النواة وقيل: هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما، فهو: فتيل بمعنى مفتول، والمراد هنا: الكناية عن الشيء الحقير، ومثله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 124] وهو: النكتة التي في ظهر النواة. والمعنى: أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب، ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون، ويجوز أن يعود الضمير إلى {مَن يَشَآء} أي: لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلاً مما يستحقونه من الثواب. ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من تزكيتهم لأنفسهم، فقال: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} في قولهم ذلك. والافتراء: الاختلاق، ومنه افترى فلان على فلان: أي: رماه بما ليس فيه، وفريت الشيء: قطعته، وفي قوله: {وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} من تعظيم الذنب، وتهويله ما لا يخفى.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأوّل، وهم: اليهود.
واختلف المفسرون في معنى الجبت: فقال ابن عباس، وابن جبير، وأبو العالية، الجبت: الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت: الكاهن، وروي عن عمر بن الخطاب أن الجبت: السحر، والطاغوت الشيطان.
وروي عن ابن مسعود أن الجبت، والطاغوت هاهنا كعب بن الأشرف.
وقال قتادة: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن.
وروي عن مالك أن الطاغوت: ما عبد من دون الله، والجبت: الشيطان، وقيل: هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله.
وأصل الجبت الجبس، وهو: الذي لا سير فيه، فأبدلت التاء من السين قاله قطرب، وقيل: الجبت: إبليس، والطاغوت: أولياؤه. قوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أهدى مِنَ الذين ءامَنُواْ سَبِيلاً} أي: يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى من الذين آمنوا بمحمد سبيلاً، أي: أقوم ديناً، وأرشد طريقاً.
وقوله: {أولئك} إشارة إلى القائلين {الذين لَعَنَهُمُ الله} أي: طردهم وأبعدهم من رحمته {وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه. قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك} {أم} منقطعة، والاستفهام للإنكار، يعني: ليس لهم نصيب من الملك {فَإذا لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف، أي: إن جعل لهم نصيب من الملك، فإذا لا يعطون الناس نقيراً منه لشدّة بخلهم وقوّة حسدهم وقيل: المعنى: بل لهم نصيب من الملك على أن معنى أم الإضراب عن الأوّل، والاستئناف للثاني. وقيل: هي: عاطفة على محذوف، والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته، أم لهم نصيب من الملك، فإذن لا يؤتون الناس نقيراً؟ والنقير: النقرة في ظهر النواة وقيل: ما نقر الرجل بأصبعه، كما ينقر الأرض. والنقير أيضاً: خشبة تنقر وينبذ فيها.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النقير، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، والنقير: الأصل، يقال: فلان كريم النقير، أي: كريم الأصل. والمراد هنا: المعنى الأوّل، والمقصود به المبالغة في الحقارة، كالقطمير والفتيل. و(إذن) هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز. قال سيبويه: (إذن) في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمداً عليها، فإن كانت في أوّل الكلام، وكان الذي بعدها مستقبلاً نصبت.
قوله: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله} أم منقطعة مفيدة للانتقال عن توبيخهم بأمر إلى توبيخهم بآخر، أي: بل يحسدون الناس يعني: اليهود يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم فقط، أو يحسدونه هو وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله من النبوّة، والنصر، وقهر الأعداء. قوله: {فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم} هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه، أي: ليس ما آتينا محمداً وأصحابه من فضلنا ببدع حتى يحسدهم اليهود على ذلك، فهم يعلمون بما آتينا آل إبراهيم، وهم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدّم تفسير الكتاب والحكمة والملك العظيم. قيل: هو ملك سليمان، واختاره ابن جرير {فَمِنْهُمْ} أي: اليهود {مَنْ ءامَنَ بِهِ} أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي: أعرض عنه. وقيل: الضمير في {به} راجع إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم.
وقيل: الضمير راجع إلى إبراهيم. والمعنى: فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من صدّ عنه، وقيل: الضمير يرجع إلى الكتاب، والأوّل أولى {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} أي: ناراً مسعرة.
وقد أخرج ابن جرير، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: إن اليهود قالوا: إن آباءنا قد توفوا، وهم لنا قربة عند الله، وسيشفعون لنا ويزكوننا، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه قال: كانت اليهود يقدّمون صبيانهم يصلون بهم، ويقرّبون قربانهم، ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، وكذبوا، قال الله: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له، ثم أنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ}.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن أن التزكية قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] {وقالوا لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111].
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل: ما خرج من بين الأصبعين. وفي لفظ آخر عنه: هو أن تدلك بين أصبعيك، فما خرج منهما، فهو ذلك.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عنه قال: النقير: النقرة تكون في النواة التي نبتت منها النخلة. والفتيل: الذي يكون على شق النواة. والقطمير: القشر الذي يكون على النواة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه: قال الفتيل الذي في الشق الذي في بطن النواة.
وأخرج الطبراني، والبيهقي في الدلائل عنه قال: قدم حيّي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مكة على قريش، فحالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: أنتم أهل العلم القديم، وأهل الكتاب، فأخبرونا عنا وعن محمد، قالوا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ونصل الأرحام، قالوا: فما محمد؟ قالوا: صنبور: أي: فرد ضعيف، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فقالوا: لا بل أنتم خير منه، وأهدى سبيلاً، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} الآية.
وأخرجه سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة مرسلاً.
وقد روي عن ابن عباس، وعن عكرمة بلفظ آخر.
وأخرج نحوه عبد بن حميد، وابن جرير، عن السدّي، عن أبي مالك.
وأخرج نحوه أيضاً البيهقي في الدلائل، وابن عساكر في تاريخه، عن جابر ابن عبد الله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن عكرمة قال: الجبت، والطاغوت صنمان.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عمر في تفسير الجبت، والطاغوت ما قدّمناه عنه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الجبت حيّي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الجبت: الأصنام، والطاغوت: الذي يكون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الجبت: اسم الشيطان بالحبشية، والطاغوت: كهان العرب.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك} قال: فليس لهم نصيب، ولو كان لهم نصيب لم يؤتوا الناس نقيراً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق، عن ابن عباس قال النقير: النقطة التي في ظهر النواة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتى في تواضع، وله تسع نسوة، وليس له همة إلا النكاح، فأيّ ملك أفضل من هذا؟ فأنزل الله هذه الآية: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} إلى قوله: {مُّلْكاً عَظِيماً} يعني: ملك سليمان.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: الناس في هذا الموضع النبي خاصة.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال: هم: هذا الحيّ من العرب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8